"العضايمة" إحدى قرى مركز إسنا، أحد مركزين ضما لمحافظة الأقصر الوليدة ارمنت واسنا ذاتا الطابع الأثري والتاريخي وإسنا مدينة مصرية قديمة في جنوب مصر كانت محط القوافل السودانية وترتبط بالسودان عن طريق درب الأربعين الشهير، كما تتصل بالواحات الخارجة وبالصحراء الشرقية حتى القصير. اسمها الفرعوني هان خونومو أي قصر الإله خنوم، واسمها الإغريقي لاتوبوليس، أي مدينة السمك البلطي. ولفظ اسنا تحريف للاسم الفرعوني (س نوت) معبد الآلهة نوت رمز السماء في اللاهوت المصري القديم. كانت في العصر الفاطمي قاعدة كورة، وفي العصر المملوكي كانت تابعة لولاية قوص ولجرجا في العصر العثمانى. وفي 1833 كانت مديرية قائمة بذاتها تشمل إسنا والكنوز وحلفا. وفي 1888 أضيفت لقنا ثم إلى محافظة الأقصر الآن، وبها معبد بطلمي أقيم على أنقاض معبد فرعوني قديم. ولأرض إسنا قداسة خاصة عند أقباط مصر، فكل سنتيمتر منها روي بدم شهيد. وقرية "العضايمة" يرجع اسمها إلى مجموع عظام الدفنات في جبانتها الأثرية، فسميت بالعضايمة نسبة إلى عظام رفات هذه الدفنات. هذه القرية، وعلى امتداد ثلاثة وعشرين عاما من البحث والتنقيب على يد بعثة أثرية فرنسية اكتشفت ما يربو على ألف مقبرة، يزيد عمر القبر منها على 5000 سنة، نصفها تقريبا بكر لم يتعرض للنهب أو السرقات أو التخريب، فهي تقع على هضبة رملية مساحتها حوالي ألف فدان وعثر في نفس الوقت، إلى جانب الجبانة، على مناطق السكن وهي حالة فريدة في مجال الحفائر. ويعود الاستيطان البشري في قرية العضايمة إلى عصور ما قبل التاريخ. وهي موقع معروف لعلماء المصريات، فقد قام المغامر وبائع التحف الأميركي هنرى دي مورجان بعمل حفائر في ضواحى القرية عام 1908 وباع المقتنيات التي جمعها لمتحف بروكلين، كما باع معظم مقتنياته متوسطة الجودة لتاجر فرنسي، والذى عرضها بدوره على متحف الآثار الوطني في سان جيرمان ارن لاى بباريس. ومن حسن الحظ أن هنري هذا لم يحفر في مساحة كبيرة. وفي السبعينيات قام الفرنسي فرناند دوبونو باستخراج نحو ثلاثين تمثالا، ثم أهمل الموقع وتركه عرضة للسرقات والنهب. وفي عام 1986 قامت الأثرية الفرنسية بياتركس ميدان رينبة المتخصصة في حقب ما قبل التاريخ ـ ولها كتاب عن آثار ما قبل التاريخ ـ بالتعرف على أعمار المواد بهذه المنطقة باستخدام الكربون المشع 14 فتبين أن عمر قطعة الكربون التي فحصتها نحو خمسة آلاف سنة، ويرجع تاريخها إلى مرحلة ما قبل التاريخ. وأكدت بياتركس أن هذه المنطقة سكنت في خلال فترة من أهم الفترات حيث كانت حضارة ما قبل التاريخ تشهد مخاضها. على اثر ذلك قررت السلطات المصرية حماية الموقع وإعادة فتحه أمام البعثات الأثرية، وتم تكليف المعهد الفرنسي للآثار الشرقية IFAO بهذه المهمة. وعلى الهضبة نصبت عشرون خيمة، واستخدم المبنى الدائم الوحيد في القرية لدراسة وحفظ قطع الآثار المكتشفة، والتي يتم العثور عليها خلال عمليات الحفر والتنقيب. كانت البعثة تضم إلى جانب علماء الآثار، علماء في الانثروبولوجي ومتخصصين في السيراميك. أول هذه القطع اكتشفت في القبور المخصصة للبالغين الواقعة في الناحية الغربية من القرية، وهو أول موقع استكمل البحث فيه منذ بدء الحفائر. كما تحتوي الغرفة الحصينة على قطع عثر عليها تضم 60 قبرا لأطفال، ويواصل الباحثون مسح المنطقة الشرقية لمحاولة فك اللغز المحيط بمقابر الأطفال والمناطق السكنية في الجزء الجنوبي الغربي من القرية وضواحيها. وتؤكد بياتركس أن هذا الموقع هو الأكثر أهمية من بين المواقع التي تم الكشف عنها والتي تعود إلى فترة ما قبل التاريخ. فقد ظلت المنطقة متماسكة عبر التاريخ حيث استوطن الموقع طوال 700 سنة من عام 3700 حتى 2900 قبل الميلاد. وإلى الشرق تم التوصل إلى اكتشافات أثرية جديدة حيث تم الكشف عن أكثر من 200 قبر جديد. في البداية اكتشفت آنية فخارية على عمق 50 سنتيمترا تمثل قربانا، وكان إلى جانبها هيكل عظمى صغير جدا لطفل ملقى على جانبه الأيمن في وضع أشبه بجنين داخل الرحم يتجه رأسه إلى جهة الجنوب مواجها لغروب الشمس ويبدو أن الطريقة التي وضعت بها الجثة جزء من مراسم الدفن أيامها. وطوال العقد الماضي أزيلت أكوام من التربة والرمال، كشفت عن الآلاف من الآثار واللقى الأثرية، وكان كل واحد من هذه الاكتشافات يمثل جزءا من النظرية التي بدأت تتضح خطوطها ومعالمها. فقد استخرجت قطعة فخارية عليها خطوط لصقر، وهو الرمز المستقبلي لمملكة مصر الجديدة، وتشكل هذه القطعة أول دليل ملموس على شكل من إشكال الكتابة بدء يظهر في المنطقة قبل أكثر من 5000 سنة، وهو رمز هيروغليفى يعني اسم حورس الذي كان يستخدم للدلالة على الطبيعة المقدسة للملك أو الفرعون منذ أكثر من 3000 عام والقطعة الوحيدة المفقودة من هذه القطعة الفخارية هي الجزء الأسفل من العلامة المعروفة باسم سيرخ التي توضع تحت الطائر الفريسة الذي يدل على ماهية اسم أول ملك لمصر. وفي قطعة فخارية حفظت جيدا كانت هناك رسوم لقارب صغير مجهز بمنصة مما يشير إلى أن النشاط التجاري على النهر كان قائما وراسخا منذ القدم، وربما كان القارب الصغير رمزا لانتقال الموتى إلى العالم الآخر. وكان ثمة نقش يرمز إلى الثور (العجل المقدس) منقوشا على وعاء فخاري عثر عليه وسط الرمال، ولقد استخدمت هذه القطعة الفخارية كتابوت حجري بدائي وكانت تضم جثة رضيع حديث الولادة وكان عليه ختم عبارة عن مزيج من الفقاعات وقطع صغيرة من الرخام الطيني شبيه بالأختام المستخدمة في إغلاق أوعية الحبوب مما يعكس طبيعة النشاط الزراعي في المقاطعات الأولى للمملكة التابعة للسلالة الحاكمة، وعلى الختم وإلى جانب التمغة ثمة رجل يحمل سكينا، وقارب صغير يشق طريقه وسط مياه النهر. أما التماثيل الصغيرة فكانت تستخدم دائما كقرابين وتدل إشكالها على أن سكان المنطقة كانوا يتقلبون بين المعتقدات السابقة والمفاهيم الجديدة، فبعض هذه التماثيل يرجع إلى العصر الحجري الحديث، وتضم تماثيل للآلهة فينوس التي تمثل إلهة الخصب في عصور ما قبل التاريخ، في حين أن تماثيل أخرى ترمز إلى أنظمة الإنتاج والرعي التي كانت سائدة في وادي النيل وإلى جانب الحيوانات البرية مثل السلاحف وفرس النهر كما تظهر تماثيل لأبقار محلية ربما تروى أسطورة الآلهة حتحور. وعثر في المقبرة أيضا على العديد من العقود المختلفة، وهناك تحفة لعقرب صنعت من العقيق الأحمر وربما تستحضر الفرعون الأول، وهو الملك العقرب الأسطوري والأب مؤسس أول سلالة حاكمة. ويبدو أن التواريخ التي تم تسجيلها في كتب التاريخ تجمع على أن قبور الأطفال كانت معاصرة لأول سلالة مصرية حاكمة في العام 3200 قبل الميلاد. وتمثل اللوحة المرسومة على صخر الشيست الرملي سمكة النيل وترمز السمكة التي تأكل بيضها إلى إعادة ولادة كل الأرواح. وأصبحت ألواح كهذه إحدى الأدوات المهمة الدالة على النفوذ والهيبة قبل أن تصبح الصفة الرمزية الأولى للنظام الملكي الفرعوني، وسرعان ما أصبحت هذه الألواح السجلات الأولى التي ظهرت عليها أولى الكتابات التي تحكي مآثر وبطولات الملك المؤسس نارمر الذي يعد أول الملوك في التاريخ. وهكذا تكون "العضايمة" قد وضعت الأساس للعاصمة الملكية حيراكونوبوليس بعد وقت قصير من استخدام أدوات الكتابة على الألواح، وباتت الهراوات بوصفها أدوات النفوذ والسلطة بين أفراد النخبة في فترة ما قبل التاريخ أول الصولجانات كرمز للسلطة في أيدى الفراعنة حيث عثر على ثلاث هراوات في أحد القبور. وتوفر كل الآثار التي عثر عليها في "العضايمة" الدليل القاطع على أهمية المنطقة كمركز للتجارة بين الوجهين البحري والقبلي نتيجة موقعها الجغرافي المميز، فهي تقع على مفترق طرق القوافل الآتية من الواحات خاصة واحة الخارجة ونقطة القوافل الآتية من النوبة والسودان والمتجهة إلى الوادي والدلتا، فقد كانت ممر التجار والتجارة. كما أن موقعها يتميز ببعده عن أخطار فيضان النيل، وتم اكتشاف مقبرتين تضمان حوالي ألف مقبرة مما يدل على أهمية الموقع في عصر ما قبل التاريخ، وهي تشبه إلى حد كبير الآثار التي عثر عليها بنقادة خاصة في الحقبة المعروفة تاريخيا بحضارة نقادة الثانية والثالثة. ولا بد أن النخبة التي عاشت في "العضايمة" كان لها دور كبير في ولادة العصر الفرعوني، ولكن لا يزال هناك لغز يحتاج إلى حل: من هو الأب الأول لحكام مصر العقرب، أم حا – مينيس، أم نارمر؟ اريك كروبيزي أحد خبراء البعثة يؤكد أن عليهم دائما مضاعفة إعمال البحث والتنقيب ودراسة ما تم إنجازه ثم فهم الكيفية التي تم يها حفظ كل اللقى والجثامين. ويشير كروبيزي إلى جثة محفوظة في وعاء فخاري في أحد القبور، ويقول إن الرمال الجافة حفظتها من التحلل وحافظت على شكلها مما يتيح دراسة بنية العظام وعمر الميت وغير ذلك. كذلك في الإمكان تقييم الإجراءات والطقوس الجنائزية المستخدمة في مرافقة الميت في رحلته الأخيرة. ويقول علماء الإنسانيات في بعثة التنقيب، وعلى رأسهم اريك إن من السهل معرفة طقوس الختام، فبعد دراسة أكثر من 100 عينة كانت النتائج مبشرة ولكنه كان مستاءً من الطريقة السيئة لحفظ الجثث. في بعض الأحيان كان يتم وضع جثة الطفل على الرمل، وتلف بقطعة جلد مفرودة على حصيرة مضفورة بقي منها إلى اليوم عدد محدود من القطع التي يميل لونها إلى الأسمر، وإلى جانب الجثة بجوار الرأس كانت توضع قطعة فخارية صغيرة وسوار حول الرسغ وعقد حول الرقبة مما يدل على تعلق الآباء بالأبناء، ولكن عظام الجثث كانت تتعرض للتحميص بسبب بقاء الجثة معرضة لأشعة الشمس الحارقة خاصة في شهر مثل نوفمبر/تشرين الثاني الذي تصل درجة الحرارة فيه إلى 50 درجة مئوية، وفي حال تعرضها لأمطار فإن الجثة تتحلل بسرعة. كانت مقابر الكبار ذات عمق في الأرض بينما مقابر الصغار قريبة من سطح الأرض وكانت من العادة دفن الميت في آنية فخارية خاصة الأطفال وربما هذا يمثل نوعا من الحماية حيث إن شكل الجرة الفخارية يشبه شكل رحم الأم كما وجدت مقابر ذات شكل متطور حيث يوضع الجسد في تابوت من الطين ويغطى بقطعة من الحجر. ومن بين الدفنات عثر على جثمان امرأة حامل وبداخلها الجنين. أما صوفى دوشسن من أعضاء البعثة فترى أن فهم عالم الموتى يعد الخطوة الأولى في عمل علماء الآثار وعلماء الإنسانيات، فعن طريق التحقق من كل الموجودات التي يتم العثور عليها، وعن طريق المقارنة بين مقابر الكبار والصغار يمكن تمييز مراحل التطور المبكرة للنخبة الاجتماعية في منطقة صعيد مصر. ويعتبر وجود مقبرتين منفصلتين ومقسمتين إلى قطاعات مختلفة بحسب السن أمرا شائعا وفقا لما يقوله عالم الإنسانيات اريك أحد أعضاء البعثة فوجود 200 جثه لأطفال صغار مسالة لا تدعو للدهشة ذلك أن متوسط عمر الإنسان في تلك الحقبة التاريخية كان منخفضا نسبيا نتيجة تفشي الأمراض والأوبئة التي كانت تحصد كثيرا من البشر. وخلص هؤلاء العلماء إلى أن أساليب الإنتاج وتنظيم الثروة بدأت في هذه المنطقة في وقت مبكر وقبل منطقة الدلتا في الشمال حيث تؤكد الوقائع التاريخية أن السلطة بدأت في صعيد مصر منذ 3200 سنة قبل الميلاد، وهي الفترة التي تطورت فيها أنشطة الإنسان من صيد للحيوانات البرية بهدف تدجينها، وتعد منطقة "العضايمة" أول منطقة في تاريخ مصر عرفت الألوان والتلوين. ويبدو أن السلطة الملكية في ظل السلطة الرمزية للإله حورس ظهرت أول الأمر في الصعيد وسرعان ما تأسست العواصم الأولى لمصــر حيرا كونوبوليس ونجادا وأبيدوس. وانجذب أمراء الحبشة في الجنوب إلى الثروات الطبيعية المتوافرة في الشمال وارتدى الفرعون الأول غطاء الرأس المزدوج الأبيض والأحمر الذي يمثل الوجهين القبلي والبحري، السلطة والحكومة. وقد عثر أيضا على قنوات مائية وحدائق وأحواض زراعية ذات قنوات لتنظيم ريها إلى جانب قطع متناثرة من الظران وأدوات الصيد وأدوات الحصاد وسكاكين ذات نصل مشرشر (مناجل) وأوانٍ فخارية ذات ألوان، وبعض القلائد وأدوات الزينة والخرز الملون، ومنها ما نحت على شكل سمكة البلطي وبقايا قرية من فترة حضارة نقادة الثالثة اختفت معالمها بفعل عوامل التعرية وأعمال الفلاحة. وعلى مسافة ليست بعيدة في الرزيقات مركز ارمنت، وبالقرب من دير مار جرجس توجد منطقة أثرية بها أوان فخارية شبيهة بالموجود في منطقة "العضايمة" حيث تقوم بعثة أميركية بالتنقيب فيها على بعد 55 كيلومترا بطريق الرزيقات - الوادي الجديد. ولعل ضم إسنا وارمنت لمحافظة الأقصر سيحقق للسياحة فتحا جديدا حيث ستتكامل العصور التاريخية من عصور ما قبل التاريخ إلى العصور الحديثة في أكبر متحف مفتوح في العالم، آمل أن يحظى باهتمام خاص من وزارة الثقافة وهيئة الآثار وهيئة تنشيط السياحة والدكتور سمير فرج محافظ الأقصر، ولا تترك هذه المناطق الثرية نهبا للمغامرين.
عبدالمنعم عبدالعظيم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق